كتب أبو الوليد أحمدُ بن زيدون إلى ابن جهور وهو في السجن رسالة استعطاف هذا مفادها :
رسالة ابن زيدون الجدية
"يامولاي وسيدي الذي ودادي له ، وأعتمادي عليه ،
وأعتدادي به .
ومن أبقاه الله تعالى ماضي حد العزم ،
وأرى زند الأمل ، ثابت وعهد النعمة .
إن سلبتني أعزك الله لباس إنعامك ،
وعطلتني من حلي إيناسك ، وأضمأتني إلى
بُرُدِ إسعافك ، نفضت بي كف حِياطتك ،
وغضضت عني طرف حمايتك ؛
بعد أن نظر الأعمى إلى تأملي لك ،
وسمع الأصم ثنائي عليك ، وأحس
الجمادُ بإستِحمادي إليك ؛ فلا غرو ،
وقد يغص بالماء شاربه ، ويقتل الدواء المستشفي به ،
ويؤتى الحذِر من مأمنِه ، وتكون منيتهُ المتمنى في أُمنِيته ،
والحينُ قد يسبق حِرص الحريص .
كلُ المصائب قد تمر على الفتى ..وتهونُ غير شماتةِ الأعداءِ
وإني لأجلد ؛ وأرى الشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع ،
فأقول:
هل أنا إلا يدٌ أدماها سِوارها ، وجبينٌ عض به إكليله ،
ومشرفيٌ ألصقه بالأرضِ صافله ، وسمهريٌ عرضه
على النارِ مثقفه ، وعبدٌ ذهب به سيده مذهب الذي يقول :
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً....فليقسُ أحياناً على من يرحمُ
هذا العتب محمود عواقبه ، وهذه النبوة غَمرةٌ ثم تنجلي ،
وهذه النكبة سحابةٌ صيفٍ عن قليلٍ تقشع .
ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبُه ،
أو تأخر غيرَ ضنين غَناؤه ، فأبطأُ الدلاءِ فَيضاً أملَؤُها ،
وأثقلُ السحاب مَشياً أحفُلها ، وأنفعُ الحيا ما صادف جَدبا ،
وألذُ الشراب ما أصابَ غَلِيلا ، ومع اليومِ غَدٌ ، ولكلِ أجلٍ كتاب ؛
له الحمدُ على اهتبالِه ، ولا عَتبَ عليه في إغفالِه .
فإن يَكُنِ الفِعلُ الذي ساءَ واحداً ...فأفعالُه اللاتي سَرَرن أُلُوفُ
وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوُك ،
والجهلُ الذي لم يأتِ مِن ورائِه حِلمُك ،
والتطاوُل الذي لم يستغرقه تَطوُلُك ،
والتحامُل الذي لم يَفِ به احتِمالُك ؛
ولا أخلو من أن أكونَ بريئاً فأين العدل !
أو مُسِيئاً فأين الفضل !
إلا يَكن ذنبٌ فَعَدلُكَ واسعٌ...أو كانَ لي ذنبٌ ففضلُك أوسعُ
حَنَانيَك ! قد بَلغ السيلُ الزُّبىَ ، ونالني ماحَسبي به وكَفَى .
وما أراني إلا لو أني أُمرت بالسجود لآدمَ فأبيتُ واستكبرت ،
وقال لي نوح : ( اركب مَعَنا ) ،
فقلتُ: ( سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعصِمُني مِن الماءِ ) ،
وأمرت بِبناء صَرحِ لعلي أطَّلِعُ إلى إلهِ مُوسى ،
وعكفتُ على العِجل ، واعتديتُ في السبت ،
وتَعاطيت فَعقَرت ، وشرِبت من النَّهر الذي أبتُلي
به جُيوشُ طالوت ، وقُدتُ الفِيلَ لأبرهَة ،
وعاهدتُ قُريشاً على مافي الصَّحيفة ، وتأولتُ
في بَيعَة العقَبة ، ونفرتُ إلى العِير ببَدر ،
وأنَحَزلت بُثُلث النّاس يومَ أُحُد ، وتخلفتُ عن
صَلاة العَصر في بني قُريظة ، وجئتُ بالإفك
على عائِشةَ الصِّدِّيقة ، وأَنِفتُ من إمارة أُسامة ،
وزَعمتُ أن بيعَةَ أبى بَكر كانت فلتةً ،
ومِن أدلة القُرآنِ عَلى خِلافةِ أبى بكرٍ ،
ورَويتُ رُمحِي مِن كتِيبةِ خَالِد ،
ومزقتُ الأدِيم الذي باركت يدُ الله عليه ،
وضَحّيت بالأشمط الذي عُنوانُ السُّجودِ به ، وبذلت لقَطام :
ثلاثةَ آلافِ وعَبداً وقينةً ... وضَربَ عليٍّ بالحُسامِ المسممِ
وكتبتُ إلى عمر بنِ سعد : أن جَعجِع بالحُسين ،
وتمثلت عندما بلغني من وقعة الحَرة :
لَيتَ أشياخِي ببَدرٍ عَلِمُوا ...جَزَع الخَزرَج مِن وَقع الأَسَل
ورجمتُ الكعبة ، وصلبتُ العائِذَ على الثَّنِية – لكان فيما جَرى
علىَّ ما يحتمل أن يسمى نَكالاً ، ويدعَى ولو عَلَى المَجازِ عِقاباً .
وحَسبُكَ من حادِثٍ بامرِئٍ ...تَرَى حاسِدِيه له راحِمِينا
فكيفَ ولا ذنبَ إلا نمِيمَةٌ أهداها كاشحٌ ،
ونبأ جاءَ به فاسِق ، وهم الهمازون المشاءون بِنَميم ،
والواشُون الذين لا يلبثون أن يَصدعُوا العَصا ،
والغُواةُ الذين لا يَتركون أدِيماً صحيحاً ،
والسُّعاةُ الذين ذكَرهم الأحنفُ بنُ قيس ،
فقال : ماظَنُّك بقومٍ الصِّدقُ محمودٌ إلا منهم !
حلَفتُ فلَم أترُك لنفسِكَ رِيبةً ...وليسَ وراءَ اللهِ للمرءِ مّذهَبُ
ولا نَصَبتُ لك بعدَ النشيع فيك ،
ولا أزمعتُ مع ضمانٍ تكلفت به الثقة عنك ،
وعهدٍ أخَذَه حُسنُ الظن عليك ؛ ففيم عَبِث الجفاء بِأذمتي ،
وعاثَ العُقوقُ في مَواتي ، وتمكنَ الضَّياع من رسائلي !
ولِمَ ضاقت مذاهِبي وأكدَت مَطالِبي !
وعلامَ رضيتُ من المركَب بالتعليق ، بل من الغنِيمة بالإياب !
وأَنَّي غَلَبَني المغلب ، وفَخَر علىَّ العاجزُ الضعيف ،
ولطمتني غيرُ ذاتِ سِوار !
ومالَكَ لم تَمنَع مني قَبلَ أن أُفتَرَس ، وتُدركَني ولمّا أُمَزق !
أم كيف لا تتضرم جَوانحُ الأكفاء حَسداً لي على الخُصوصِ بك ،
وتتقطع أنفاسُ النُّظَراء مُنافَسةٌ في الكَرامة عليك ،
وقد زانني اسمُ خِدمَك ، وزهاني وَسمُ نِعمتك ،
وأبلَيتُ البَلاء الجميلَ في سِماطِك ،
وقُمتُ المَقام المحمودَ على بِساطِك .
أَلستُ المُوالي فيكَ غرَّ قصائدٍ...هيَ الأنجُمُ افتادَت مع الليل أنجُمَا
ثناءً يُظنُ الروضُ منه منثوراً ...ضُحى، ويُخالُ الوَشي فيه مُنمنَمَا
وهل لَبِس الصبَاحُ إلا بُرداً طرزتُهُ بفضائِلِك ،
وتفلدَتِ الجوزاءُ إلا عِقداً فصلتُهُ بمآثِرِك
ـ واستملى الربيع إلا ثناءً ملأتهُ من مَحاسِنِك ،
وبَث المِسكُ إلا حديثاً أذعتُه في مَحامِدك !
حَليمةَ بِسر .
وإن كنتُ لم أكسُك سَليباً ، ولا حَليتك عطلاً ،
ولا وسمتك غفلاً ؛ بل وجدتُ آخراً وجِصاً فبنيت ،
ومكانَ القول ذا سَعةٍ فقُلت
حاشا لكَ أن أعَد من العاملةِ النّاصِبة ،
وأكونَ كالذُّلة المنصوبةِ تُضيءُ للنّاس وهي تحترق !
فلك المَثَل الأعلى ، وهو بكَ – وبي فيكَ – أولى .
ولَعَمرُكَ مَاجَهِلتُ أن صَريحَ الرأيِ لأن أتحولَ
إذ بلغتني الشمس ، وأنا ببابي المَنزل ،
وأصفح عن المطامع التي تُقطع أعناقَ الرجال ،
فلا استوطيء العَجز ، ولا أطمئن إلى الغُرور ؛
ومن الأمثال المضروبة : خامري أمّ عامر ؛
وإني مع المعرفة أنّ الجلأ سِباء ، والنُّقلةَ مُثلة .
ومَن يَغتَرِب عن قَومِه لَم يَزَل يَرَى ..مَصارعَ مَظلومٍ؛ ومَجَراً ومَسحَباً
وتُدفَن منه الصّالحاتُ وإنْ يُسيءْ....يكنْ – ما أساء- النَّار في رأسِ كَبكَبا
لعارفٌ بأنّ الأدب الوطنُ لا يُخشى فِراقه ،
والخليط لا يُترقع زيالُه ، والنَّسِيب لا يُجفئ ،
والجمالَ لا يخفى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق